في القرن العاشر الهجري / القرن السادس عشر الميلادي ، زلزلت اليمن زلزالاً شديداً، ونطق التاريخ بأحداث جسيمة، ولاحت في أفق اليمن السياسي تغييرات جذرية عميقة، ووطأت اليمن أعتاب التاريخ الحديث . فقد فتح العثمانيون اليمن سنة ( 945 هـ / 1539م).
وكانت أول مدينة يمنية انطوت تحت لوائهم هي عدن عروس البحر العربي ، ومفتاح جنوب البحر الأحمر وهمزة الوصل بين الغرب والشرق ، وكانت تضخ الأموال الضخمة للدول المركزية التي تعاقبت على حكم اليمن في العصور الوسطى كالدولة الصليحية ، الأيوبية ، الرسولية ، والطاهرية بالأصفر ، والأبيض ( الذهب والفضة ) وغيرها بسبب مينائها المهم الذي كان يموج بالحركة والنشاط التجاري الدائبين . وكانت القبائل لا تدين لتلك الدول بالولاء والطاعة إلا بعد أنّ تسيطر على عدن مدينة المدائن اليمنية . و بعد أنّ فتح العثمانيون ثغر عدن انطلقت جيوشهم تفتح المدن اليمنية الواحدة تلو الأخرى بعد أنّ سادتها الاضطرابات والفوضى السياسية ، فانتشر الأمن والأمان في ربوعها.
سؤال تاريخي مهم؟
وهناك سؤال يتردد دائما بين أوساط الباحثين الناشئين والمثقفين اليمنيين أو بالأحرى سؤال أحدث جدلا واسعًا بينهم وهو أنّ العثمانيين في اليمن هل كانوا فاتحينً أم غزاة أم محتلين ؟ . والحقيقة أنّ ذلك السؤال التاريخي المهم طرح في كثير من الندوات العربية التاريخية التي عقدت في عددٍ من عواصم الدولة العربية وتحديدًا في جامعاتها . هل يجوز أنّ نطلق على الخلافة العثمانية دولة احتلال أمّ دولة فتح؟. ومن فترة ليست قصيرة ، أقيمت ندوة تاريخية في العاصمة الجزائر ــــ التي تطفو على وجهي الأصيل الكثير من الملامح والمعالم الأثرية العثمانية منها على سبيل المثال حي القصبة المشهور بتراثه العثماني الإسلامي ، والمشهور أيضًا بكفاحه المسلح إبان الاحتلال الفرنسي ، وتتألق أيضًا عدد من مساجدها العريقة الذي يعود بناؤها إلى العثمانيين كمسجد ( صالح باى ) ـــ وكان عنوان الندوة العلمية التاريخية (( الخلافة العثمانية في الوطن العربي والعالم الإسلامي )) وتركزت المناقشات حول سؤال مهم وهو هل كان العثمانيون فاتحين أمّ غزاة ؟ . وهل يجوز أنّ نطلق على العثمانيين بالمحتلين أمّ بالفاتحين؟ .
العالم الإسلامي والخلافة العثمانية
والحقيقة ، لقد أجمع أكثر الحاضرين من المؤرخين العرب وغير العرب في تلك الندوة التاريخية أنّ الدولة أو الخلافة العثمانية لم تكن في وقت من الأوقات دولة إحتلال مثلما أذاع ونشر الكثير من المؤرخين الغربيين المعادين للدولة العثمانية ــــ التي وقفت سدًا منيعًا ضد أطماع القوى الأوربية أكثر من أربعة قرون ـــ ومع الأسف العميق ـــ ثبتت وترسخت تلك المقولة المسمومة في أذهان الكثير من المثقفين العرب الذين انسلخوا من مبادئ الثقافة العربية الإسلامية وخصوصًا الذين درس غالبيتهم في عواصم الجامعات الأوربية في لندن أو باريس وغيرهم , ومن ثم نشروها في بلدانهم العربية . والحقيقة أنّ ظهور العثمانيين في أوائل القرن ( 16م ) ، كان من الأهمية بمكان أو من الضرورة الملحة والخطيرة التي أملتها الأوضاع السياسية الدولية في الوطن العربي والعالم الإسلامي أنّ تتجه الخلافة العثمانية نحوهما لإنقاذهما من الفوضى والاضطرابات السياسية .
المرجعية
والحقيقة أنه بعد أنّ تم القضاء على الخلافة العباسية ـــ والتي استمرت تحكم الوطن العربي والعالم الإسلامي قرابة أكثر من 500م ــــ ومقتل آخر خلفائها الخليفة العباسي المستعصم سنة ( 656 هـ / 1258م ) على يد المغول التتار دخل الوطن العربي والعالم الإسلامي في فراغ سياسي كبير . حقيقة حاول أحد المماليك الأقوياء أمثال السلطان الظاهر بيبرس المتوفى ( 676هـ / 1277م) في مصر أنّ يحيى الخلافة العباسية مرة أخرى ولكن لمآربه السياسية الخاصة به بغرض صبغ حكمه بالصبغة الشرعية من خلال أنّ يوليه الخليفة العباسي مقاليد الحكم وبذلك يستطيع أنّ يقف حكمه على أرض صلبة في حكم البلاد والعباد . ولكن الحقيقة التاريخية تؤكد بأنّ الخلافة العباسية في بغداد ، قد حرقت ، وغرقت في نهر دجلة والفرات وصارت أثرًا بعد عين بعد زحف هولاكو بجيوشه الجرارة عليها . وعاشت شعوب البلدان العربية والإسلامية أوقات عصيبة ، وساد الاضطراب ، والفوضى في كل مكان ، وتفتت الوطن العربي والعالم الإسلامي إلى أجزاء ، ولم يعد للشعوب العربية والإسلامية مرجعية تعود إليها لتخرجها من النفق المظلم إلى الآفاق الواسعة والرحبة من الأمن والأمان ، والقوة والازدهار كما كانت عليه في عصرهما الذهبي عصر الأمويين ، والعباسيين عندما كان يجلس على كرسي عرشهما حينئذ خلفاء أمويين أقوياء أمثال الخليفة عبد الملك بن مروان ، والخليفة الزاهد والعادل عمر بن عبد العزيز . وخلفاء عباسيون أمثال أبو جعفر المنصور ، وهارون الرشيد ، والمعتصم في الدولة العباسية . والحقيقة أنّ الخلافة كانت تمثل للوطن العربي والعالم الإسلامي مظلة الأمن والأمان ، وبالرغم من جنوح شمس الخلافة العباسية إلى الضعف في أواخر عصرها ، فقد كانت تمثل القوة الروحية للرعية ، وكان والقواد ، والأمراء ، والوزراء ، والحكام يستغلونها لتنصاع لهم الرعية . وهذا ما أكده الأستاذ أحمد أمين بقوله : “ وكان من أثر هذا أنّ الخلفاء العباسيين لما ضعف نفوذهم المادي ، وفقدوا السلطان على الرعية ، ولم يكن شيء من القوة في أيديهم ظلت هذه السلطة الروحية فيهم ، يستغلها القواد والأمراء ، والوزراء وأصحاب السلطان المادي فيستجلبون رضى العامة بإعلان رضى الخليفة عنهم وإمداده الروحي لهم “ .
مل الفراغ
وكان من الضرورة بمكان أنّ تملأ الفراغ السياسي الواسع والعميق في الوطن العربي والعالم الإسلامي دولة إسلامية قوية تعود للإسلام هيبته التي أفتقدها العالم العربي والإسلامي بعد القضاء على الخلافة العباسية ـــ كما قلنا سابقا ـــ أو على أقل تقدير الذود عن حياض الوطن العربي والعالم الإسلامي أمام الحملات الصليبية الشرسة التي كان تداهمه من حين إلى آخر . وكانت أقوى الدول الإسلامية في تلك الفترة التاريخية هى الدولة أو الخلافة العثمانية لتحل محل الخلافيتين الأموية والعباسية وبذلك صارت المرجعية الإسلامية الذي يعود إليها الوطن العربي والعالم الإسلامي عند الملمات ، والخطوب من ناحية وأنّ تكون السد المنيع الصلب ضد زحف الأطماع الأوربية على الوطن العربي والإسلامي من ناحية أخرى . واستطاعت الخلافة العثمانية بالرغم من المؤامرات الشرسة من القوى الأوربية أنّ تحافظ على كيان وبنيان الوطن العربي قرابة أكثر من أربعمائة عام ـــ على حد قول الدكتور محمد عمارة في مؤلفه (( الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري )) ــــ . وقبل مجيء العثمانيين إلى الوطن العربي كان الأخير لقمة سائغة للأطماع الأوربية وخصوصًا اليمن التي عصفت بها الفتن والقلاقل والاضطرابات السياسية بين القوى المحلية المتمثلة بالطاهريين في عدن ، الأئمة الزيدية في المنطقة الجبلية الشمالية ، والطائفة الإسماعيلية في جبال حراز ، والأشراف في جيزان التي تناحرت فيما بينها ، ومثلما كانت اليمن تئن تحت وطأت الاضطرابات السياسية ، كان أيضًا دولة المماليك في مصر نجمها يهوى بسبب الحروب بين الأمراء المماليك على الجاه والسلطان والنفوذ . وفي تلك الأوضاع السياسية القاتمة في الوطن العربي والعالم الإسلام زحفت الأساطيل البرتغالية الضخمة والقوية المزودة بالمدافع العملاقة ، والأسلحة النارية الفتاكة وغيرها على السواحل العربية الجنوبية ، والتي عمدت على إغلاق منافذ البحر الأحمر لخنق موانئ مصر وكذلك موانئ اليمن ، وتهديد جدة ، وموانئ عُمان . وعملت أيضًا على السيطرة على الخليج العربي ، وعلى بسط نفوذها في المياه الهندية ( المحيط الهندي ) . وإقامة تحالف بين الحبشة وبينها لغرض محاربة الإمارات الإسلامية المحيطة بها من جهة والقضاء على القوى الإسلامية في مصر واليمن من جهة أخرى لغرض أنّ تنفرد البرتغال باحتكار تجارة التوابل وسلع الهند وجزر الهند الشرقية . وإزاء تلك العوامل الرئيسة والخطيرة أملت على الخلافة العثمانية ضرورة النزول بثقلها إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي لمحاربة البرتغاليين الذين ضربوا حصارًا اقتصاديًا قويًا على السواحل العربية الجنوبية من جهة وتهديدهم للأراضي المقدسة ( مكة والمدينة ) من جهة أخرى .
أهداف الحملة البرتغالية
وكيفما كان الأمر ، فقد شهد الوطن العربي حملة صليبية أخرى في فجر القرن ( 16م ) ، القرن ( 10 هـ ) على غرار الحملة الصليبية على الشرق العربي التي استمرت قرابة أكثر من مائتي عام والتي دارت رحاها على تراب ، الشام ، بلاد الرافدين ( العراق ) وتحديدًا في فلسطين الموصل ، و مصر ، وكانت بداية انطلاق تلك الحركة الصليبية المسعورة الحاقدة في سنة 1095م الذي أعلنها بابا الكنيسة الكاثوليكية أوربان الثاني من جنوب فرنسا ، وأمّا الحملة الصليبية الأخرى ، فقد دارت رحاها في حوض جنوب البحر الأحمر ، والبحر العربي ، والمياه الهندية ( المحيط الهندي ) وتحديدًا على السواحل العربية الجنوبية وهي الحملة البرتغالية التي وضعت نصب عينيها على تحقيق هدفين الأول هو احتكار التجارة الشرقية المتمثلة بالتوابل وغيرها من السلع الواردة من الهند والتي كانت تدر أرباحًا خيالية على موانئ مصر ، واليمن وبالأحرى سحب تلك التجارية الشرقية من تحت أقدام العرب المسلمين وتحويلها إلى لشبونة في البرتغال . وأمّا الهدف الآخر هو نشر المسيحية. وهذا ما أكده ملك البرتغال ( عما نويل ) عندما وجه خطابه للحملة البرتغالية المتجه إلى المحيط الهندي ، يقول فيها : “ أنّ الغرض من اكتشاف الطريق البحري إلى الهند هو نشر المسيحية ، والحصول على ثروات الشرق “ . والحقيقة لقد أعترف بعض المؤرخين والكتاب الغربيين المنصفين عندما ذكروا أنّ الحملة الصليبية على السواحل العربية الجنوبية ما هي في حقيقتها كانت امتدادًا للحملات الصليبية الضخمة الشرسة التي استمرت على الوطن العربي إزاء أكثر من مائتي عام وقبلها كانت في الأندلس التي سقطت في قبضة الإسبان النصارى سنة 1493م وطرد فيها المسلمين إلى شمال أفريقيا بل أنّ الأمر لما يقف عند هذه الأمر ، فقد قامت الأساطيل الإسبانية بغارات على ثغور شمال أفريقيا . “ وكان الهدف من هذه الحركة الاستعمارية هو تعقب المسلمين القادمين من الأندلس ، والقضاء على آخر معاقلهم على الساحل الأفريقي ، ثم إجهاض أي محاولة للتفكير في العودة إلى هذه البلاد “ .
اليمن ومصر
والحقيقة أنّ البرتغاليين ، وضعوا نصب عينيهم على القضاء على مراكز الإسلام وهي القاهرة ، والحرمين الشريفين مكة والمدينة وبذلك ينفرط عقد الوطن العربي والعالم الإسلامي ويصيبها الوهن والتفكك والخور ، والضعف ويكون بذلك لقمة سائغة لهم , وقد عبر البوكيرك أحد كبار القادة البرتغاليين في الأسطول البرتغالي ـــ مؤسس الاستعمار في الوطن العربي وصاحب فكرة زرع المستوطنات الأوربية في الشرق ــــ بأنّ حصولهم على التجارة الشرقية أو ثروات الشرق يعني أنّ تكون تلك المناطق الإسلامية المهمة ( القاهرة ، وبلاد الحجاز ) أثرًا بعد عين أو تكون خاضعة تحت نفوذهم . ورأى البرتغاليون أنه من أجل تحقيق سياستهم الاقتصادية وهي السيطرة على التجارة الشرقية القادمة من الهند وجزر جنوب الهند الشرقية يجب ضرب طوق بحري قوي على السواحل العربية الجنوبية. ونظرًا أنّ البرتغال كانت لديها أقوى أسطول بحري حينذاك ، فقد تمكنت أنّ تبسط نفوذها على مياه البحر العربي وأنّ تسد منافذ حوض جنوب البحر الأحمر ، وأنّ تجول وتصول في المحيط الهندي ، وأنّ تحدث خسائر جسيمة وضخمة في الحياة الاقتصادية التجارية العربية وذلك من خلال إغراقها للسفن التجارية العربية المحملة بالتوابل وغيرها من السلع القادمة من الهند وجزر جنوب الهند الشرقية . وبالفعل تمكن الأسطول البرتغالي لما له من قوة أنّ يسد منافذ البحر الأحمر ، ويسيطر على السواحل العربية الجنوبية ومنها السواحل اليمنية والتي كانت خاضعة للدولة الطاهرية ــــ حينئذ ـــ ، وكان على رأسها أعظم سلاطينها السلطان عامر بن عبد الوهاب المقتول سنة ( 1517م ) على يد المماليك بالقرب من صنعاء . وكان من الطبيعي أنّ تتعرض مصر المملوكية في عهد السلطان الغوري إلى أزمة اقتصادية خانقة بسبب الحصار البرتغالي المضروب على موانئها مثلما حدث لليمن . وكان من نتائج الحصار البحري البرتغالي على موانئ مصر ، وسواحل اليمن أنّ قوضت كيانهما السياسي وصارتا على حافة الهاوية أو في طريقهما إلى الاحتضار . والحقيقة هناك حقيقة جغرافية ثابتة عبر العصور والتاريخ بين اليمن ومصر تقول إنّ اليمن ومصر دائمًا وأبدًا مرتبطين ارتباطًا عميقًا ، فالأخيرة تقع في الطرف الشمالي من البحر الأحمر ، والأولى تحتل الطرف الجنوبي منه ولذلك فإنّ الزلازل السياسية الجسيمة والخطيرة التي تحدث في مصر سرعان ما تتأثر بها اليمن تأثيرًا عميقاً نظرًا لارتباطهما العميق في العامل الجغرافي . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : “ عندما يتعرض طرف من أطراف حوض البحر الأحمر لخطر خارجي أو داخلي فتهتز له باقي الأطراف ، وهذا ما يؤكد رسوخ العلاقات المصرية اليمنية وكأنها قدر مكتوب ، أو أنها استجابة لعبقرية المكان لكل من البلدين، إذ تقع مصر عند شمال البحر الأحمر واليمن عند جنوبه “ .
السلطان عامر والملك الغوري
وكان من البديهي أنّ هذا الخطر البرتغالي الذي هدد وجود كل من مصر ، واليمن وباقي السواحل العربية الجنوبية أنّ يتمخض منه تحالف بين البلدين ، وكانت هناك رسائل وسفراء متبادلة بين السلطان عامر سلطان الدولة الطاهرية والسلطان الغوري سلطان مصر المملوكية أنّ يقفا جنبًا إلى جنب ضد هذا التهديد البرتغالي . ولقد طلب السلطان عامر من السلطان الغوري مساعدته في صد البرتغاليين على سواحله ، ولكن الأخير تأخر عن مد يد المساعدة لأوضاعه الداخلية المضطربة المتمثلة بالتدهور الاقتصادي التي كانت مصر تعانيها بسب إغلاق البرتغاليين لمنافذ البحر الأحمر ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . وعلى أية حال ، وافق السلطان ( عامر ) أنّ يتعاون مع الحملة المملوكية المتجهة إلى الهند غير أنه أعرض عن ذلك بعد أنّ لفت نظره أحد قادته الكبار برفض مساعدتها ( أي الحملة المملوكية ) حتى لا تصير هذه المساعدة جزية سنوية تدفعها الدولة الطاهرية للدولة المملوكية في مصر . وهذا ما أكده سيد مصطفى سالم ، قائلاً : « وقد مال السلطان ( عامر ) في بادئ الأمر إلى إجابة حسين الكردي ( قائد الحملة المملوكية على الهند ) والوفاء بوعوده السابقة للسلطان ( الغوري ) ، ولكن أشار عليه أحد قادته بعدم إجابة مطالب المماليك وطرد رسولهم ، وكانت حجة هذا القائد هي الخوف من أنّ تكون مطالب المماليك نوعًا من فرض السيادة السياسية أو السيطرة العسكرية على اليمن ، أو يتحول طلب المماليك إلى جزية سنوية يطالب بها اليمن باسم محاربة البرتغاليين «. والحقيقة أنّ رفض السلطان عامر في مساعدة المماليك في إثناء طريقهم إلى الهند يكشف عن مدى عدم إدراكه الحقيقي لاستراتيجيه الغزو البرتغالي لسواحل اليمن بصورة خاصة والسواحل العربية الجنوبية بصورة عامة بأنه لم يكن غزوًا مؤقتا بل كان يهدف على المدى الطويل إغلاق منافذ البحر الأحمر ، والسيطرة على مياه البحر العربي ، والهندي بغرض احتكار التجارة الشرقية ، ونشر المسيحية ـــ كما عبر عنها ملك البرتغالي في خطابه إلى الحملة المتجه صوب المياه الهندية ـــ كما قلنا سابقا ـــ ، وكان من نتائج رفضه أنّ سقطت الدولة الطاهرية في اليمن . وفقد السلطان ( عامر ) حياته نفسه على يد المماليك ـــ كما قلنا سابقاً ــــ . ومن النتائج الأخرى والهامة هى سطوع نجم الإمام شرف الدين المتوفى ( 1558م ) المنافس الخطير والعدو اللدود للسلطان عامر في سماء الأحداث السياسية في اليمن . وكيفما كان الأمر ، فقد غربت شمس الدولة الطاهرية الذي امتد حكمها على اليمن قرابة أكثر من 80 عامَا أو بالأحرى طويت صفحاتها , وفتحت صفحة جديدة لدولة الأئمة الزيدية في اليمن لتؤدي دورها المهم والخطير في تاريخ الفتح العثماني الأول لليمن .
اليمن خط الدفاع الأول
والحقيقة أنّ المماليك فشلوا فشلاً ذريعًا في طرد البرتغاليين من المياه الهندية وذلك بعد خسارتهم الفادحة أمام الأسطول البرتغالي في معركة ديو سنة ( 1509م ) , وكان من نتيجة ذلك أنّ ثبت البرتغاليين أقدامهم في المياه الهندية ، وصار لهم مراكز تجارية وقلاع عسكرية إستراتجية على بعض السواحل الهندية الهامة مثل (( جوا ) . وكان من نتيجة هزيمة أسطول المماليك في المياه الهندية أمام البرتغاليين أنّ أتبع الأولين خطة دفاعية وهي أنّ تكون السواحل اليمنية خط الدفاع الأول وجدة خط الدفاع الثاني لمواجهة تحركات الأسطول البرتغالي في البحر العربي وحوض جنوب البحر الأحمر . والحقيقة أنّ الأسطول البرتغالي وتحديدًا في عهد القائد البرتغالي البوكيرك مؤسس الاستعماري الأوربي في الشرق ، لم يعد من مهماته الرئيسة سد منافذ موانئ البحر الأحمر أو بالأحرى ضرب حصار بحري شديد على السواحل اليمنية من ناحية وإغراق السفن العربية التجارية المحملة بتجارة التوابل في عرض البحر أو الاستيلاء عليها فحسب بل بات تجاوزت خطته ضرب وتدمير وتخريب الموانئ العربية الجنوبية مثلما حدث مع ميناء ( قلعة ) الواقع على الساحل العُماني حيث “ وواصل البوكيرك أعماله العدوانية على هذا الساحل ، فهاجم مدينة ( مسقط ) وأمر بضرب المدينة بالمدافع وإحراقها ، وإحراق مسجدها وكذلك جميع السفن التي بمينائها ... “ . وعندما سطع نجم الدولة العثمانية بعد انتصارها الساحق على المماليك الغورية في موقعة مرج دابق بالقرب من حلب بالشام سنة ( 923 هـ / 1517م ). أعلن المماليك المصرية في اليمن الولاء للسلطان العثماني سليم الأول وبذلك تحمل العثمانيون عبء مواجهة البرتغاليين في السواحل العربية الجنوبية لحماية ممتلكاتها في جنوب الجزيرة العربية ، والخليج العربي فضلا عن دعم الأمراء والملوك المسلمين الهنود في إماراتهم ضد الخطر البرتغالي الذي كان يهدد كيانهم السياسي والاقتصادي والذي كان بالفعل يزحف إلى داخل مناطقهم وكذلك دعم ومساعدة الإمارات الإسلامية المحيطة بالحبشة .
عدن حجر الزاوية
وتذكر المصادر البرتغالية أنّ عدن كانت الشغل الشاغل للبرتغاليين أو بالأحرى كانت حجر الزاوية بالنسبة للخطط البرتغاليين الحربية لكونها المدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر، ومستودع هام للبضائع والسلع التجارية ، والسيطرة عليها تعنى أنّ البرتغاليين قد ضربوا طوقا حديديًا على الموانئ المصرية من جهة والسواحل اليمنية من جهة ثانية والسواحل العربية الجنوبية من جهة ثالثة وأخيرة . وباتت تجارة التوابل وغيرها من التجارة الشرقية في قبضتهم . وهذا ما دفع بنائب الملك , و قائد الأسطول البرتغالي البوكيرك أنّ يستأذن في خطاب أرسله إلى ملك البرتغال سنة 1512م بمهاجمة عدن والاستيلاء عليها : “ باعتبار ذلك جزءًا من خطته العامة هو السيطرة على مصادر التجارة وإغلاق المنافذ العربية البحرية . وكان البوكيرك ، قد أدرك قبل ذلك أنّ الجزء الأكبر من التجارة الشرقية يتبع طريق البحر الأحمر وليس الخليج الفارسي ، وأنّ (( عدن )) هى أكبر مستودع تجاري هناك ، وأنه يجب السيطرة عليها لتأمين طريق البرتغال الجديد حول رأس الرجاء الصالح “ . وكيفما كان الأمر ، فقد توجهت الحملة البرتغالية المجهزة بالأسلحة الثقيلة والفتاكة إلى عدن سنة ( 919هـ / 1523م ) ، وكانت تلك الحملة البحرية البرتغالية مكوّنة من عشرين سفينة وأكثر من ألف جندي برتغالي وعدد غير قليل من الهنود . وكيفما كان الأمر، فقد فشلت تلك الحملة البرتغالية فشلاً ذريعًا بسبب مقاومة أهل عدن من ناحية وحصانة طبيعتها المحيطة بالجبال الشاهقة ، والمسالك الوعرة من ناحية أخرى . والحقيقة أنّ هزيمة البرتغاليين أمام أبواب عدن ، كانت تعد الهزيمة الأولى لهم في السواحل العربية الجنوبية ، وكانت هزيمة البرتغاليين أبواب عدن لها نتائج مهمة وخطيرة على الصعيد العسكري ، فقد كانت البداية الأولى في انحسار المد البرتغالي من السواحل اليمنية بصورة خاصة والسواحل العربية الجنوبية بصورة عامة أو بمعنى آخر كانت بداية النهاية للبرتغاليين على السواحل العربية الجنوبية .
وجهًا لوجه
قلنا : سابقاً أنّ مصر تقع في الطرف الشمالي من البحر الأحمر ، واليمن تحتل الطرف الجنوبي من البحر وأنّ الأحداث الجسام التي تقع في مصر لها تأثير واضح على الأحداث في اليمن نظرًا للاتصال الجغرافي فيما بينهما ولكونهما يطلان ويتحكمان في أهم شريان بحري في المنطقة وهو البحر الأحمر الذي يربط بين الغرب والشرق . وبناء على ما تقدم ، فإنّ العثمانيين عندما فتحوا مصر في سنة 1517م في عهد السلطان سليم الأول ( 1512 ـــ 1520م ) ، وجهوا نظرهم صوب اليمن أو تحديدًا تجاه سواحلها لكونها تمثل القاعدة أو الخط الأول في الدفاع عن ممتلكات الدولة العثمانية ضد البرتغاليين الذين كانوا يصولون ويجولون في مياه البحر العربي والمياه الهندية ـــ كما سبق وأنّ قلنا ـــ . فقد أدرك العثمانيون “ بعد دخولهم مصر أهمية اليمن الاستراتيجية بالنسبة إلى نزاعهم مع البرتغاليين في مياه البحر العربي والمياه الهندية ( المحيط الهندي ) “ . والحقيقة أنه مما زاد من تصميم العثمانيين على مواجهة البرتغاليين في السواحل العربية الجنوبية وخصوصًا في السواحل اليمنية ، والخليج العربي هو أنّ العثمانيين استولوا على العراق في سنة 1534م وكان هذا امتدادًا لنفوذهم إلى سواحل الخليج العربي الشمالية “ فأصبحوا بذلك وجهًا لوجه أمام البرتغاليين ، فقد دخل أمراء البصرة والقطيف والبحرين في طاعة العثمانيين بعد فتح بغداد “ وصارت المواجهة حتمية بين العثمانيين والبرتغاليين .
الطريق إلى الهند
وتحت إلحاح الأمراء الهنود المسلمين بضرورة إرسال حملة بحرية عثمانية إلى الهند لطرد البرتغاليين من المياه الهندية ، أمر السلطان العثماني بتجهيز أسطول بحري ضخم للقضاء على الخطر البرتغالي هناك . وكيفما كان الأمر ، فقد تم الانتهاء من أعداد الأسطول العثماني الكبير ليتوجه إلى الهند ، وكانت الحملة بقيادة سليمان باشا الخادم ، وفي طريقهم استولوا على عدن ، « بعد خمسة أيام من وصولهم أي في ربيع أول سنة 945هـ ( 8 أغسطس سنة 1538م ) “ ـــ كما سبق وأنّ ذكرنا ـــ فقام سليمان باشا الخادم بتحصين المدينة وشحنها بالمدافع ، وبتعيين أحد سناجق الحملة وهو الأمير بهرام حاكمًا لها كما ترك خمسمائة جندي “. وبسط كذلك العثمانيين أيضًا نفوذهم على الشحر بعد أنّ قدم الطاعة والولاء أميرهم بدر الطويرق للسلطان العثماني ودخل في حظيرتهم نتائج الحملة العثمانية
والحقيقة أنّ العثمانيين لم يحرزوا الانتصار الكامل على البرتغاليين في المياه الهندية وتحديدًا أمام السواحل الغربية الهندية ، ولكنهم استطاعوا أنّ يحدوا من نشاطهم الحربي أمام المناطق العربية الساحلية الجنوبية وعلى وجه الخصوص السواحل اليمنية ، وجدة ، وأنّ يغلقوا منافذ البحر الأحمر في وجه البرتغاليين ، وكانت قوة العثمانيين دائمًا مصدر إزعاج للبرتغاليين في المياه الهندية أمام السواحل الغربية الهندية لكون الأخيرين كانوا يدركوا أنّ العثمانيين لهم القدرة على تجهيز أساطيل ضخمة تستطيع أنّ تسبب لهم الكثير من الخسائر الحربية وهذا مما يشجع الأمراء الهنود المسلمين على طردهم من سواحلهم . وهذا ما أكدته الوثائق البرتغالية أنّ العثمانيين بقوتهم الحريبية والسياسية استطاعوا أنّ يبثوا في نفوس الأمراء الهنود المسلمين روح المقاومة ضد الوجود البرتغالي . ومن النتائج الحربية المهمة التي تمخض عنها فشل الحملة العثمانية على البرتغاليين في الهند أنّ وضع العثمانيون إستراتيجية أخرى تجاه الغزو البرتغاليين على السواحل العربية الجنوبية وهي على غرار الخطة الحربية المملوكية ا التي كانت خطتهم دفاعية أكثر منها هجومية ، فعملوا على تقوية سيطرتهم وقبضتهم على سواحل البحر الأحمر ، كما عملوا على تطهير السواحل العربية الجنوبية بوجه عام من خطر جيوب الأساطيل البرتغالية .
فك الارتباط الحبشي البرتغالي
والجدير بالذكر أنّ وجود العثمانيين على السواحل اليمنية ، كان من أهم العوامل الرئيسة في انفراط عقد التحالف الحبشي البرتغالي أو بمعنى أخر فك الأرتباط الحبشي البرتغالي الذي كان يهدف إلى تطويق البلدان الإسلامية المطلة على البحر الأحمر من ناحية والانقضاض على الحجاز ( المدينة المنورة ، ومكة المكرمة ) من ناحية أخرى . فقد أحست الحبشة ( التي كانت تعرف قديمًا بمملكة القديس جون أو يوحنا ) بأنّ تواجد العثمانيين في السواحل اليمنية أو بالأحرى بالقرب منها يعد تهديدًا خطيرًا لكيان استقرارها السياسي لكون العثمانيين سيمدون يد العون والمساعدة إلى الإمارات الإسلامية المحيطة بها . وهذا ما دفع بملك الحبشة أنّ يتراجع عن التحالف الذي كان بينه وبين البرتغاليين . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم عن الأسباب الحقيقية وراء انفراط العقد الحبشي البرتغالي نوجز أهم ما جاء فيه ، فيقول : « كان لوصول العثمانيين حينذاك إلى البلاد العربية أثره في موقف النجاشي من السفير (( دى ليمان )) ــ البرتغالي ــ ، فعمل على مراوغته ، وعلى عدم الوصول إلى اتفاقيات محددة معه ... ولقد استمر الخوف من العثمانيين يؤثر تأثيرًا ملحوظاً على موقف الأحباش من البرتغاليين ... كان اتخاذ العثمانيين لسياسة إسلامية أكثر نشاطًا يؤدي إلى إثارة الإمارات الإسلامية الحبشية ضد الحبشة ، ولذلك فضل الأحباش عندئذ عدم الدخول في اتفاقيات محددة مع البرتغاليين « . ونستخلص من ذلك أنّ قدوم العثمانيين إلى البلاد العربية وخصوصًا إلى اليمن كان له تأثيره الواضح والعملي على فك الأرتباط الحبشي البرتغالي اللذين كانا يهددان الوطن العربي والعالم الإسلامي ويعملان على القضاء عليه . ومما زاد في تفكك التحالف الحبشي البرتغالي أيضًا هو أنّ الأولى تدين بالمذهب الأرثوذكسي أمّا الأخيرة تعتنق المذهب المسيحي الكاثوليكي واللذين هما في خلاف وعداء شديد بينهما . ولقد حاول البرتغاليين نشر مذهبهم المسيحي هذا في أرض الحبشة ولكن الأخيرة طردتهم من أرضها .
اليمن ولاية عثمانية
وفي عهد السلطان سليمان القانوني ( 1520 ــــ 1566م ) والذي بلغت فيه الدولة العثمانية أوج قوتها ثبت العثمانيين أقدامهم في اليمن ، وبسطو نفوذهم على مختلف ربوعه و بذلك باتت “ ولاية عثمانية لها كل مقومات الولايات العثمانية الأخرى “ . ولقد أجمعت الروايات التاريخية اليمنية أنّ اليمنيين استقبلوا العثمانيين استقبالاً طيبًا في مستهل حكمهم لكونهم قضوا على الفوضى والاضطرابات السياسية التي سادت كل مكان من اليمن بسبب تنازع القوى المحلية العنيفة فيما بينهم من ناحية وأنّ اليمنيين كانوا يكنون للدولة العثمانية المسلمة كل الود والحب لسمعتها الطيبة في الوطن العربي والعالم الإسلامي من ناحية ثانية ولما بذلته من جهود ضخمة في محاربة البرتغاليين على السواحل اليمنية وفك طوق الحصار الاقتصادي عليهم من ناحية ثالثة وأخيرة .
الهوامش :
د . عبد الله عبد الرّازق إبراهيم ؛ المسلمون والاستعمار الأوروبي لأفريقيا ، ذو القعدة 1409 هـ ـــ يوليو / تموز 1989م ، عالم المعرفة ـــ المجلس الوطني للثقافة والفنُون والآداب ــ الكويت ـــ .
ابن الطقطقي ؛ الفخري ، دار صادر بيروت ، سنة الطبعة غير معروفة .
أحمد أمين ؛ ضحى الإسلام ، الجزء الأول ، الطبعة العاشرة ، دار الكتاب العربي ـــ بيروت ــــ لبنان ــــ .
دكتور محمد عمارة ؛ الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري الطبعة الأولى 1985م ، دار المستقبل العربي . شارع بيروت . مصر الجديدة ـــ القاهرة ـــ .
الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ــــ 1635م ، الطبعة الخامسة نوفمبر 1999 ، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع ــــ القاهرة ـــ جمهورية مصر العربية ـــ . ملاحظة : اعتمدنا في بحثنا هذا اعتمادًا كليًا على هذا المرجع القيم .
الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ نصوص يمنية عن الحملة الفرنسية على مصر ، الطبعة الثانية 1989م ، المركز الدراسات اليمنية ـــ صنعاء ـــ .